الأحد، 10 ديسمبر 2017

من وحي الألم | القاصة مناهل الحسين

من وحي الألم .. مجموعة من القصص القصيرة والخواطر والتجليات .. كتبتها مناهل شاهين الحسين، نوردها لكم تباعاً .. 

 

 

زواجــلوجــيا 

زواج مستقر وحياة على رتابتها كانت سعيدة، أمسى هذا في زمن كان فيه للهاتف النقال وظيفة واحدة فقط وهي الاتصال للاطمئنان عن بعضنا البعض ..
ومع مرور الزمن تطور هذا النقال ليصبح قَتًال لكل جميل في حياتنا.
الجميع يعاني بصمت من هذا القاتل الذي أصبح من أساسيات الحياة، وفي كل مرحلة تتطور فيها التكنولوجيا تتراجع فيها الحياة الواقعية.
بات الجميع غير قادر على خلق جو من الألفة، ويسيطر عليهم التواصل الاجتماعي الافتراضي على حساب التواصل الاجتماعي الحقيقي .
طغت على حياتنا عاطفة الثواني..
أصبح الأب إن أراد الاطمئنان على أولاده يشيح بنظره عن هاتفه لثوانٍ ليمنحها لأبنائه، ومن ثم يعود إلى عالمه الخاص، وكأنه بهذه النظرة السريعة يكون قد أشبع الطفل بالعاطفة والاهتمام الذي يحتاجه.
عاطفة الثواني التي أصبحت أسلوب حياة يعتمدها معظمنا، كم هي مقيتة، كم تقتل الكثير من المشاعر والكثير من الحب.
حتى أصبح الأهالي يربطون سعادة أبنائهم بما يملكونه من أجهزة وألعاب إلكترونية، فينشأون فتيان وفتيات بعيدين كل البعد عن الواقع، في حياة تحتاج إلى الجهد الحقيقي ليحققوا فيها ذاتهم، وليصطدموا بواقع لا يستطيعون أن يحصلوا فيه على مايريدون بكبسة زر، كما اعتادوا في ألعابهم الالكترونية.
أصبحنا في هذه الأيام نسمع كثيرا عن أزواج وزوجات يشتكون من إدمان هذه التكنولوجيا وسيطرتها على حياتهم .
تحدثني صديقتي كيف تقضي يومها مع زوجها فتقول:
إني أرى زوجي يمشي بخطاً ثابتة نحو انهيار زواجنا، يقول إنه يحبني، لكن اهتمامه بهاتفه وبمواقع التواصل الاجتماعي فاق هذا الحب، يستقظ صباحا، يفتح عينيه بصعوبة، يمسك هاتفه، يتصفحه بسرعة، قبل أن ينهض ليذهب الى العمل، مواقع التواصل الاجتماعي مفعّلة على هاتفه وعلى حاسوبه في العمل، وعندما يصل الى المنزل، يعطينا ثوان من وقته، وبسؤال سريع: كيف حالكم اليوم ؟ أضع الطعام على المائدة، أجلس مع أطفالي بإنتظار زوجي الذي أدخل هاتفه معه الى الحمام ليطمئن على ما فاته بالعشر دقائق التي أشغل بها يديه بقيادة السيارة حتى وصوله، أخيرا .. يجلس، يتناول الطعام بسرعة، يأخذ إبريق الشاي وعلبة السجائر ويعود إلى عالمه الخاص، يجلس قرابة الساعة، يشعل سجائره ليحرق صدره و وقته، ويزيد من شعلة انهيار حياتنا الزوجية.
يذهب للنوم، ليستيقظ في السابعة مساءً، أُحضر له كأس من المتة، تضع له طفلتنا الصغيرة طبق من المكسرات على أمل قضاء ليلة أسرية هادئة ملؤها الحب والاهتمام، يتناول كأس المتة وهاتفه لينزوي من جديد في عالمه الخاص، وينهار الأمل بقضاء الليلة معاً، حتى يأتي موعد النوم، ولا نوم قبل إلقاء النظرة الأخيرة على هاتفه، وهكذا الحال كل يوم ..
وفي الطرف المقابل يحدثنا الزوج:
أصبحت أشتهي فنجاناً ساخناً من القهوة، فلابد لي من الانتظار لتنتهي زوجتي من تصوير الفناجين وقطع الحلوى، لتنشر الصورة على مواقع التواصل الاجتماعي قبل أن نشربها، فتبرد القهوة وتبرد لذة انتظارها مع هذه الطقوس الوافدة لبيتنا، حتى أصبح الجميع يعرف ألوان فناجين القهوة وشكل الديكور وحتى أنواع العطور التي تستخدمها زوجتي، وشكل النقوش على فساتينها.
ويقول: بيتنا غير مرتب وأولادنا لا يتهندمون إلا من أجل صورة تنشرها زوجتي على الفيس بوك، لتشبع غرورها بعبارات المديح التي تقضي وقتاً طويلاً في انتظارها ومتابعتها، لتشهد برتاتبتها وأناقة أولادنا.
ننتظر لساعات حتى تطهو لنا الطعام، الذي لا يحق لنا تذوقه قبل أن تتباهى به أمام صديقاتها في مواقع التواصل الافتراضي.
كثيراً ما نرى ونسمع عن زيجات انهارت بسبب تعليق أو منشور على فيس بوك...
لقد تحولت مواقع التواصل الافتراضي إلى آفة تهدد الحياة الأسرية المستقرة بالانقراض ..
يقولون إن التكنولوجيا وُجدت لتسهّل الحياة، ولتقرّب العالم من بعضه البعض، لكنها فعلت العكس تماماً..
أصبح الشخص يجلس بجانبك بجسده فقط، أما تفكيره وروحه يبحران في عالم آخر.
عالم التواصل الاجتماعي، كم أبغض هذه التسمية، كم من حياة دُمرت ، كم من بلاد عانت الأهوال من كثرة الأكاذيب التي تنتشر على صفحاتها.
أصبحت أؤمن أنه كلما تطورت التكنولوجيا كلما انهار أساس الحياة السعيدة المستقرة، نعم إنها وحش يلتهمنا، ونحن كنا له لقمة سائغة، بسذاجتنا وضعف إدراكنا.
هنيئاً لكِ أيتها التكنولوجيا، تفوقتي على من أوجدك فأصبح عبداً لكِ ومؤدلَجاً لتطويرك، لتزيدي فتكاً بنا، ضارباً عرض الحائط كل معاني الحياة السعيدة والمستقرة.
لأننا شعوب نتلذذ بقتل سعادتنا بأيدينا، فبدل أن نستغل تلك الوسائل لخدمتنا، نكتفي بجعل سلبياتها تتحكم بنا، ونعطيها كل الصلاحيات لتعبث بحياتنا كما تشاء.

 

  

 

القرش والشبكة ..

رائحة التراب بعد هطول المطر تعيد إليك ذكريات جميلة غاصت بين ثنايا الذاكرة،
كأس من مشروب (المتة) إبريق ماء ساخن، مدفأة ، وحاسوب محمول موصول « بشبكة إنترنت » تأخذك الى كل أنحاء العالم.
ماذا يريد المرء بعد كل هذا .. ؟ لم أكد أنهي تساؤلي حتى بدأت سرعة « شبكة الإنترنت » تبطئ وتبطئ .. وأكثر فأكثر حتى أصبحت شبه معدومة .
أطفأتُ مزود الخدمة وأعدتُ تشغيله أكثر من مرة، أملاً بأن تعود « شبكة الإنترنت» للعمل لكن دون جدوى.
عرفت حينها أنه القرش اللعين .. لقد أعاد الكرة، وعضّ الكبل المسكين العائم في أعماق البحر ..
ما بالك أيها القرش ؟؟!! هل نظرت إلى «الكبل» فحسبته أنثى قرش جميلة تغريك برقصها مع التيارات البحرية؟؟!! .. أم حسبته عدواً لدوداً وقمت بالانقضاض عليه بأنيابك التي لاترحم .
لو كنت تعرف أن هذا الكبل ما هو إلا منصات بوح لأرواح متألمة من واقع مرير، وإكسير حياة يوقظ الأرواح من ثباتها .. ويطلق العنان للبوح وللمشاعر ..
لو كنت تعلم ذلك لما فكرت يوماً بالاقتراب من هذا الكبل إلا لتحرسه، لتبقيه سالمًا من أنياب أي قرش تسوّل له نفسه بالعبث بمشاعر شعبٍ، لم تعد لديه الكثير من الوسائل ليتأكد أنه مازال على قيد الحياة.
هيا أيها القرش
أما كفاك عضاً ولهواً
أرجوك أرحم شعباً
سافرت عنه كل الرفاهيات
وما بقي له غير تلك الشبكة سلوى
شبكتنا لا ينقصها عضاً
فهي بالأصل ضعيفة
لا تجعلها تزداد وهناً
أنت تحت الماء تلهو
ونحن فوق لأرض نُُنعى

  ***********************


بعد غياب

كتبتها مناهل شاهين الحسين

عامان من الغياب عن وطن وقع تحت وطأة حرب لا ترحم .
عامان من الألم والشوق لأرض أرتوت بدماء أبنائها، لتزهر أمناً وسلاماً للأجيال القادمة.
عامان من الاشتياق لأهل وأصدقاء ذاقوا مر الحرب، تجرعوا ألم فقدان أغلى الأحبة، غادرهم الأمان وحل مكانه القلق والخوف، من حرب لا أحد يعرف متى ستنتهي.
عامان من الحنين لقهوة الصباح على شرفات كانت تعبق بالفرح، وبرائحة الياسمين، معانقةً صوت فيروز، معلنةً بداية نهارات ملؤها الأمل .
حزمنا حقائبنا وعيوننا مليئة بالدموع فرحاً بلقاء قريب للأهل والأحبة، وحزناً على وطن لا يستحق كل هذا الألم.
لاحت ملامح دمشق من نافذة الطائرة، بدت كنسر يمد جناحيه ليحمي أبناءه.
عند وصولنا رأينا وجوها ارتسم عليها ملامح الحزن، وكمٌ كبير من الألم لا نقدر على تحمله و أستيعابه، شوارع شاحبة مكدسة بالتراب والسواتر الرملية.
رأينا شباناً أبطالاً تحملوا أقسى الظروف، وقفوا شامخين لحماية أهلهم بكل قوة وعزيمة .
كان لقاء الأهل كمن وجد الماء في الصحراء بعد عطش دام طويلاً وكاد أن يكون قاتلاً ..
لقاء روى ألمنا ليزرع فينا أملاً بأن كل شيء سيكون على ما يرام، بهمة أهلنا الصامدين، على الرغم من كل المحن والصعاب التي مرت بهم .
رأينا وطناً عزيزاً مازال صامداً، يقول: أنا هنا وسأبقى، ما دام الدم يجري في عروق أبنائي الأوفياء.
وبعد تعب يوم طويل أفرغنا به بعضا من الحنين والشوق، اختبرنا فيه كل أنواع المشاعر تسلل النعاس الى أعيننا، دخلنا غرفة نومنا لنيل قسطاً من الراحة .
نصف ساعة.. وبدأ فوق أحد البيوت القريبة ديك بالصياح، لقد بدا وكأنه يعاني من خلل في ساعته البيولوجية.
بضع ثوانٍ .. ديك آخر يرد عليه، لربما كان يحاول أن يخبره أنها لا تزال الساعة الثانية بعد منتصف الليل وعليه أن يعود للنوم . وربما هو أيضاً قرر ألا تقر له عين قبل أن يرحب بنا .
أستمر الحوار بينهما هكذا لأكثر من نصف ساعة..
وأخيراً ساد الهدوء .
لكن .. ينقطع التيار الكهربائي، تتوقف المروحة عن الدوران، وتتوقف معها النسمات الباردة التي تصنعها المروحة بدورانها، وبدأ البعوض يحوم في الغرفة ليقضي معنا ليلة من الحر الشديد ، ويرحب بنا بطريقته الخاصة .
لم يدم الهدوء طويلاً .. فقد ركن أحدهم سيارته تحت شرفة غرفتنا، وأطلق العنان لصوت مسجله، بأغاني الدبكة، ولربما أراد هو أيضاً أن يرحب بنا.
أهلاً بكم في بلد بنبض بالحياة ولا ينام .
وقف زوجي بعد أن كان مستلقياً ، خلع قميصه وهو يهز كتفيه، وأخذ يلوح بقميصه عالياً داعيا إياي وأطفالنا بعد أن هرب النوم من أعينهم أيضا" للرقص.
رقصنا ورقصنا وضحكنا من أعماق قلوبنا حتى نال التعب منا ، وغرقنا في نوم عميق على الرغم من كل الضجيج حولنا، نحلم بغد مشرق

...........................


ولو غرزة .. 

 قصة قصيرة

كتبتها: مناهل شاهين الحسين


جلست بقرب المدفأة ..تفكر بابنها .. تحيك له كنزة من الصوف ليلبسها تحت بذته العسكرية في هذا البرد القارس ..
تدعو له أن يبعد عنه البرد والأذى ..
يرن هاتفها ..إنه هو .. صوته الدافئ يشعرها بالفخر والطمأنينة ..
أمي .. اليوم سيكون يوماً مشهوداً في دحر الأعداء .. دعواتك يا أمي ..
تغلق الهاتف ..تشعر أنها ليست على مايرام ..
يرن الهاتف بعد ساعة: ابنك شهيد الوطن ..لكننا لم نستطع إحضار جثمانه من ساحة المعركة ..
تقول: كيف لي أن أصدق أنه رحل دون أن أودع جسده الحبيب ..اجلبو لي أي شي من أثره .. ولو غرزة من ثيابه .. لأضمها وأودع فارسي الوداع الأخير..
تجلس وهي تحدث نفسها .. جارتي فقدت شهيداً في هذه الحرب.. لكنها حصلت منه على حذاء وخوذة .. كم هي محظوظة..
صاحت بأعلى صوتها: هو شهيد..
لكن غرزة واحدة من ثيابه تكفيني .. لأبدأ مراسم قبول غيابه عني .. وبغياب هذه الغرزة اعذروني .. فابني سيبقى في نظري حياً ..
أقيموا مراسمكم كيفما شئتم
فأنا سألقاه كل ليلة .
أطمئنه عني.. ويحدثني عن فتاته التي يحبها ..
أخيط له ثقوب جواربه ..
أبقيه دافئاً..
وأقول له كل يوم:
يا أيتها الروح النقية أنت
في روحي محفوظة
ومن شرايين قلبي مروية
حية أنت معي
إلى أن ترحل روحينا سوياً





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق