الجمعة، 21 يوليو 2017

قصص قصيرة | القاصة ميسون عيسى






لمن سجنتهم الحرب في متاهة الانتظار ،،،
في مكان ما على هذه الأرض ،،،
حدثت هذه القصة ،،،

ذكرى لقاء

،،،،،،،،،،،،

ملحق ثقافي
2018/10/30
ميسون عيسى

سحب جريئة تختال في سماء رمادية، ويبدو في هذا النهار قلق انتظار، وأسئلة كلّما أمعنت في تجاهلها تزيد من إلحاحها، وجوه ومطارح قديمة تطلّ من خلف زجاج نافذتي.
خرجت الى الشرفة مع كتاب.. لا شيء سوى شجيرة الياسمين وحيدةً تتسلق الجدران، تبدو على أوراقها صفرة خفيفة، وتحصد نجومها النسمات منذرةً برحيلٍ الى موعد مؤجل.‏
فجأةً جاء صوتها وكأنه من بين دفتي الكتاب «سماء تشرينية.. ما أحلاها!»، وبحركة لا إرادية نظرت الى أعلى..‏
قوافل من الغيوم البيضاء المكتنزة تركب الريح وتغدو أمام قرص الشمس، وهو يبدو لطيفاً وديعاً يغمز ويتخفى بدلال، ليفرش الظل جناحيه على الشرفة، وأمي ما تزال واقفة تحمل في يدها صينية عليها فنجان قهوة وسكرية شفافة، تناولتُ فنجاني لأضعه على حرفٍ جانبي، وانشغلت هي بتفقد نباتاتها وزهراتها العزيزات متوجهةً اليهن بصوت خافت فقد اعتادت هذه المكاشفة كلما خرجت إليهن.‏
رجعت إلى كتابي وكنت أقرأ في مقدمة المجموعة الشعرية تعليقاً للشاعر على كثافة الحضور في إحدى أمسياته يقول: «لا أعلم لماذا يأتون.. لست جميلاً.. ولست أجيد الكلام، ومن الأفضل لهم قراءة كلماتي من سماعها، كما أنه من الأفضل لهم أن يسمعوني من أن يروني..».‏
فكّرت!.. وهل يمكن لصانعي الجمال ألا يكونوا جميلين؟! إنه ذات المشهد السماوي، وذات السؤال.‏
قبل الحرب.. لم تكن السعادة معادلة مستحيلة الحل، كان يكفيني وضوح الصباح وأغنية فيروزية وأجرة الحافلة، لأتنقّل برشاقة في هذا الكون الجميل آخذةً طريقي إلى الكليّة، لأجده بانتظاري عند الباب.‏
بريق عينيه وابتسامته من بعيد تشتل في قلبي زهراً وتُنزل مطراً وتطلق فيه الحساسين، تحوله الى غابة فرح.‏
هو يسبقني بعام، وها نحن نجلس على مقعد في حديقة الجامعة بين محاضرتين أو لنقل بين زمنين.‏
- هل تعرفين؟ اليوم عيد ميلادي.‏
- حقاً! عيد سعيد.‏
-تعلم؟ أحمل معي شيئاً لك..‏
أخرجت من حقيبتي شريط للسيدة فيروز.‏
-هل ترى مثلي أن صانعي الجمال لا يشيخون أبداً؟‏
-قد ذكرتني بما كتبه عنها الشاعر أنسي الحاج «ليتني أستطيع أن ألمس صوتها، أن أحاصره وألتقطه كعصفور، كأيقونة»، نعم أوافقك تماماً فمجرد مناقشة هذا الأمر تعد خيانة للجمال.‏
ساد الصمت برهة ونظر في عيني مبتسماً ثم قال:‏
-هل تعتقدين أننا نستطيع أن نبقي أصوات من أحببناهم معنا دائماً كأيقونة؟‏
ضحكت وقلت متهربة من الإجابة:‏
-الجواب عند السيدة فيروز.‏
أخرج كتاباً من جيب سترته وقال:‏
-جئت لأودعك، أنا سألتحق بالجيش.‏
مددت يدي بشرود لألتقط زهرة ياسمين كانت قد سقطت واستقرت على كتفه الأيمن، ثم تناولت الكتاب ووضعتها بين صفحاته، مخفية قلقي المباغت.‏
ومرةً أخرى يحلّ خريف، فلا أجد صوتي.‏
أفتش عنه بين القصائد لعلي أوقف الزمن فيعود، ولا يكون ذاك اللقاء، هو الأخير في تشرين أخير.‏

**************
**************






المدينة التي لا تتوقف حلاوتها عن الذوبان في قلبي ،،،،،

صباح شامي بنكهة السبعينات

ميسون عيسى

***********************
لم أكن أتجاوز بعد سنواتي الأربع ، يضيق المنزل بشقاوتي ، فيُسمح لي بالخروج الى الحارة لبعض الوقت ، و لم يكن في الأمر أية أخطار أو محاذير في دمشق السبعينات .
كان منزلنا عبارة عن غرفتين صغيرتين و شرفة ضيقة ، و كل ما أذكر من أثاث ذلك المنزل هو مكتبة مليئة بالكتب و عود و آلة خياطة ...
هذه الاشياء الثلاثة ، كانت ثروة العائلة ، تعلّمنا ان نحترمها و نتعامل معها برفق و حنان ، و كل ما عدا ذلك هو بضاعة مخلوفة .
و على حافة الشرفة الصغيرة ،اعتادت أمي ان تضع ابريق الماء ، ذا اللون الأزرق الفاتح كلون السماء ، بينما كانت تمطر رذاذاً خفيفاً ، فتتساقط بعض حبات المطر في الابريق ، و تحت تأثير هذه الصورة البديعة ، لا بد لأي كان أن يشرب ، ليجرب طعم هذا المزيج الرّباني .. المحلّى بحب العزيز ... هكذا كنّا نسمي رذاذ المطر في دمشق ...
" حب العزيز " هو عبارة عن حبّات من اليانسون المغلفة بالسكر ... ولا زلت الى الآن تحت تأثير تلك الرشفة ، فما وجدت لطعمها مثيلا في أي مكان .
الحارات الدمشقية ، العابقة برائحة الخبز ، على شرفاتها يتغنج الورد و الياسمين ، بانتظار أن تستيقظ عيون العشاق فتداعب حمرة خدوده و تلتقط ما تساقط من أقماره لتتشارك معها قهوة الصباح ...
هذه الظاهرة الجميلة ، بأبواب أو بلا أبواب ، سر من أسرار أقدم مدينة مأهولة في التاريخ ،. دمشق التي حمل نزار قباني عطرها في حقائبه و سحر به العالم .
" تلكَ الزواريبُ كم كنزٍ طمرتُ بها وكم تركتُ عليها ذكرياتِ صـبا "
المدينة التي حاول الجميع امتلاكها سعيا لامتلاك ناصية التاريخ و الجغرافيا ، فضاعوا بين أسوارها و ضفائرها ، عشاق أو مفقودين ....
و في مكان استراتيجي .. يقع محل الأقمشة و أدوات الخياطة . تبرق الابر واكسسوارات الفساتين في الواجهة الزجاجية كبريقها في عرس بهي . و يقع في الجهة المقابلة تماماً مطعم الفول و الفلافل ...
أبرز ما يميز ذلك المشهد هو راديو (أبو خالد) صاحب المطعم ، كنت أراه دائما في واجهة المحل الزجاجية ، موضوعا على رف بمستوى أذنه اليسرى ، كان شغوفا بسماع الأخبار أثناء تحضير صحون الفول و الحمص المطحون " المسبّحة " و تزيينها بالمخلل و أنواع البهارات، يتفنن في رسمها بمهارته الشامية ، كمن يحضّر لوحة من لوحاته التشكيلية المميزة .
وفي أوقات فراغه القليلة ..يخرج ليقف أمام محله ، يتحدث و يتباحث بما هو جديد من الأخبار ، و يتشارك في تحليلاته مع بعض المارّة من أهالي الحي و أصحاب المحلات ، و كانت معظم أحاديث (أبو خالد) تدور عن اسرائيل ، فهمت ان اسرائيل سرقت أرضاً من كل العرب تدعى فلسطين ، وبخيالي الطفولي توقعت أنها ربما تكون الشريرة ذات العين الواحدة التي تأتي في الظلام لتسرق الاطفال ، ثم اتضح لي انها سرقت الجولان و ضيعتي ..الجميلة النائمة هناك على السفوح .
الشارع العربي كلّه كان يتحدث عن فلسطين ، أين فلسطين و أين الشارع العربي الآن ...؟؟؟!!!!!
وحدها دمشق بقيت ما بقي الزمان تكحل صباحها ، بصوت فيروز و هي تغني " يا زهرة المدائن ، ردّني الى بلادي ، يا جبل الشيخ يا قصر الندي ، و خطّة قدمكن عالأرض هدّارة "

**************
**************




عندما تكون التضحية بلا حدود .....

الأخ الأكبر

ملحق ثقافي
2018/6/12

ميسون عيسى

مد يده في جيب سترته وأخرج لفافة تبغ ثم قرب إليها عوداً صغيراً مشتعلاً، وبدأ ينفث دخانه. إنها ليلة قارسة البرودة، بدت النار المشتعلة بمثابة قطعة لذيذة من الجنة،
استغرب الفكرة..! كيف تكون النار قطعة من الجنة، ربما...! كل شيء يتغير تبعاً للظروف.. نفخ على يديه وفركهما بسرعة ثم قربهما من النار.‏
الشمس شارفت على المغيب وهذه المنطقة معروفة بوجود الخنازير البرية.‏
تذكر هوايته في صيد الخنازير، كان يذهب مع أصحابه الذين أطلقوا عليه اسم الأخ الأكبر إلى الجرود، يسهرون ويتسامرون حول النار ويتصيّدون، حتى أنه في إحدى المرات اصطاد خنزيراً حياً وأخذه إلى القرية، وما زالت في ذاكرته صورة أهل القرية حين اجتمعوا حول الحيوان المربوط بإحكام إلى جذع شجرة البلوط في الساحة.‏
عاد ليحدق في الحطب الذي تحول إلى جمر. لم ينس بعد تلك الليلة عندما هرب مع أخيه ذات شتاء بارد من ظلم زوجة الأب، ثم قطعا الوادي الكبير الموحش سيراً على الأقدام، صبيين حافيي القدمين تعبين ومبللين في حالة يرثى لها وصلا إلى هذه القرية، أم لطفي السيدة العجوز قدمت لهما طعاماً وجففت ملابسهما، لم يكن لديها أولاد ولا حتى زوج، ولكنها عرفت بهذا الاسم منذ زمن بعيد، ومن لطف الرب أصبحت تعتني بهما كأولاد لها.‏
لم يأت أحد للسؤال عنهما، ولم ترغب أم لطفي في مغادرتهما فقد وجدت فيهما ما كانت تتوق إليه، وكما ينجذب النبت الطري الى دفء الشمس انجذب الطفلان الى اليد الحانية التي فاضت عليهما من أمومتها المحرومة، وهكذا مر الزمن سريعاً وأصبحا شابين، الصغير التحق بالجيش، أما هو فقد عاد إلى القرية بعد أن أتم خدمة العلم، لقد مضى على ذلك زمن.‏
تمعن في وجوه الرفاق، فيهم ملامح الأخ الحبيب الغائب، تلمس جسده الذي أصبح ثقيلاً، أغمض عينيه قليلاً، تذكر عيني أخيه، لونهما أخضر بلون الزيتون كعيني أمهما التي رحلت عن هذا العالم باكراً، كان يحب هذا الشعوره بالمسؤولية تجاه أخيه رغم أنه يكبره بعام وبضعة أشهر.‏
آخر مرة رآه فيها كانت في المشفى عندما طلبوا منه استلام جثته بعد أن استشهد في معركة ضد الإرهابيين.‏
أحداث تومض أمام عينيه وتتزاحم الذكريات بعيدة وقريبة، يستعيده صوت الضابط، لقد اقتربوا، ازدادت ضربات قلبه قوة وسرعة، كان العتم قد غطى الطريق السهلية تماماً، ليس في إمكان الناظر أن يرى سوى أشباح تتحرك في الظلام، عددهم كبير بالمقارنة مع مفرزة مكونة من بضعة جنود مسؤولين عن حماية القرية، وكان لا بد من معجزة كي لا يصلوا إلى مأربهم في دخولها، تمركز كل في مكانه وتهيؤوا لمعركة لا تبدو لصالحهم.‏
وسط استغراب الرفقاء نهض الأخ الأكبر بهدوء وتصميم ثم ركض كالنمر باتجاه المسلحين وفجأة أضيىء السهل كمدينة للألعاب النارية وأمام دهشة الرجال المتأهبين للمعركة تحول الرعاع إلى أشلاء، وبدا السهل وكأنه يحاول لفظهم من جديد.‏


**************
**************




الحب هو أن يغني لك العصفور على غصن شجرة و هو حر ..ماذا حدث عندما غنى العصفور لشجيرة الورد ..؟؟؟؟
__________________

أفتش عن الحب


( قصة قصيرة )ملحق ثقافي2018/5/8

ميسون عيسى



أقبلَ كالسهم من زرقة السماء الربيعية، منتشياً محتفلاً بالدفء. دار دورتين ورفرف بجناحيه، ثم حط بكل ما أوتي من فرح على غصن شجيرة ورد فتية، ممشوقة الأغصان، تناظر بأزرارها خلف سور الحديقة، وتحلم بحكاية ربما تأتي من ذلك الأفق البعيد، لم تدر عنها بعد فهي حديثة العهد وطرية العود، لا تعرف سوى فسحة هذه الحديقة وحجارة السور الباردة.‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏قالت: آآآ أيها العصفور أنت تثقل على غصني وهو غض لن يتحمل، فبدأ العصفور يغني “أفتش عن الحب”. ولما سمعت غناءه سرى النسغ في أغصانها وتفتحت أزرارها المغمضة. لم تعد تشعر بثقله. وقالت: توسد غصني أيها العاشق وكن نديمي، ابنِ بيتك في قلبي، وأعدك أن أحنو بأغصاني على بيتك وأحميه بأشواكي من المتطفلين. دعني أسمع غناءك العذب، واحكِ لي جميل القصص عن ارتحالك في سماء الغابات والخمائل.‏‏سر العصفور بعرضها اللطيف، وبكل امتنان بنى عشه على غصنها. لم تعد الشجيرة تشعر بألم، فقد طاوع غصنها الممدود ألحان الطائر الشجية. وبعد زمن تدلى حتى لامس التراب، وافتتن العاشق بجمال أزرارها المتمايلة بدلال وغرد لها أنغامه الرقيقة كلما أشرق الصباح.‏‏انقضى الصيف، وسرعان ما انطفأت جذوة الفرح... وشحب وجه السماء.. إنه الخريف... حان وقت الرحيل.. عانق الطائر الصغير شجيرته الحبيبة بعينين دامعتين ورفرف بجناحيه وطار نحو الشمس.‏‏مرت الأيام باردة قاسية على شجيرة ورد صغيرة ووحيدة.‏‏وذات يوم جنت الريح وعصفت بشجيرة الورد. قاومت المسكينة بأغصانها العارية، وكلما اشتدت الريح انحنت على عش العصفور. وفي أتون العاصفة العنيدة تكسرت أغصان الوردة وتناثر العش ثم تلاشى خلف السور في فضاء الوديان. بكت الشجيرة وتلفظت أنفاسها الأخيرة متذكرة وعدها للعصفور. هطل الثلج وغمر كل شيء كنهاية حزينة لقصة حب لم تكتمل.‏‏ضحك الربيع من جديد، ولبست التلال وشاحها الملون وتعطرت بعبق زهورها البرية. ومن سفره الطويل وصل الطائر المتعب إلى روضته الأليفة ومكانه الحبيب، ولم يصدق أن شجيرته الحبيبة قد اختفت، وأنه لن يتغزل بأزرارها المتفتحة كالعيون البهية فوق السور، وأنها لن تسمع قصائده المخبأة تحت الأجنحة الملهوفة للقاء.‏‏اقترب حزيناً من مكانها، فوجد غصنه وقد تشبث بالأرض من جديد ونبتت له جذور متوغلة في التربة، وأغصان صغيرة تنبض بالحياة عُقدت عليها براعم الورد، فأسعده ما رأى وأذهب حزنه وأساه ، فشرع يترنم ويغني عن شجيرة أحبته فمنحته غصناً، وسرعان ما سمع الغصن يقول بصوت دافئ وحنون: أنا منحتك غصناً وأنت أهديتني فرصة لأحيا من جديد. إن لم يكن ذلك هو الحب فما هو الحب؟‏‏
**************
**************

الجـســـــــر

قصة قصيرة
الجمعة 27-1-2017

كتبتها: ميسون عيسى

لحظتان جميلتان تحملان توقيعه كفنان يعتد بعمله.. الأولى قبل أن تدق المعاول، حين يأتي مع رفاقه ثم يبدأ بمعاينة المكان فيغمض عينا ويفتح الثانية منقلا نظره من جهة إلى أخرى، وكأنه يقوم بدراسة على طريقته الخاصة، فبالرغم من كونه عاملا بسيطا لم يدرس الهندسة ولم يكن يوما في مجالس البلديات، إلا أنه يمتلك سعادة من ينتظر طفلا عندما يعلم أن هناك جسرا قيد الانشاء، واللحظة الثانية.. في آخر يوم عندما يكتمل العمل، كان يترك المكان بسعادة المنتصر وقد استقام الجسر وشمخ واقفا على دعائمه بهيبة وجلال.‏
اليوم وقد اقترب العمل من نهايته، ماالذي حصل ؟!، كيف تحول الحزن حجرا ثقيلا هكذا، كيف لم أجد بعد مكانا أرمي فيه كل هذا الحطام من قلبي؟!‏‏
يتساءل بذهن شارد بينما يسير معتمدا على ذاكرة قدميه، وعيناه حائرتان كمن يفتش عن شيء ضائع لا يدري ماهو بالضبط، لكنه شيء يتسرب يوما بعد يوم كما يتسرب الرمل الناعم من بين أصابعنا، دون أن ندري.‏‏
توقف في مدخل الحارة حيث تجلس سيدة عجوز أمام بسطة صغيرة وضعت عليها بعض أنواع البسكويت وعلب المحارم الصغيرة، وقداحات وسلاسل صغيرة.‏‏
- «عوافي يا أم ياسين».‏‏
أومأت برأسها ترد التحية، ثم قالت بلهجة كمن يردد هذه الجملة ألف مرة في اليوم «بعد ما رجع ياسين».‏‏
- «رح يرجع يا أمي.. رح يرجع».‏‏
- «أنا أنتظره هنا منذ سنة..أنت تعلم.. قال انه لن يتأخر.. سأبقى جالسة هنا كي أكون أول من يراه عندما يعود.. ياسين هو جسر البيت يا «أبوخليل» وهو رفيق طفولتك.. لم يبق لأولاده غير جدتهم العجوز..».‏‏
ربت على يدها بحنان.. وأكمل طريقه وقد تراكمت في رأسه صور عن صديقه ورفيقه الطيب صاحب النكتة وأفضل بنّاء في الحي وربما في المدينة.‏‏
ذهب الى عمله في الصباح و لم يعد.‏‏
يتذكر جملة سمعها منه ذات يوم: «من يجرب العمل في البناء، يفكر ألف مرّة قبل أن يهدم حجرا واحدا».‏‏
كيف يا ياسين بنينا كل تلك الجسور القوية الجميلة لتربط بين أطراف المدينة المترامية، ولم ننتبه الى جسور الرّحمة التي تآكلت وقد تركناها لشياطين الموت، تنخر في عمدانها ؟!‏‏
آآه كم تهاوت جسور بينما نحن في غفلة من الزمان.‏‏
كانت قدماه تسيران ببطء بين الأبنية المتعبة وقد تهدم بعضها ومال على بعض، و لكن مازالت هناك بقية باقية من البيوت تنبض بالحياة رغما عن قذائف وصواريخ الحرب.‏‏
كان ممن اختاروا البقاء في الحي رغم تهدم الجزء الأكبر من منزله، لكنه على يقين، أن البقية الباقية من سقفه أرحم من وجع الغربة و ذل المنافي، كان ينتظر نهاية الحرب ليضمد جروح المنازل و يمسح دموع العتبات.‏‏
- «مجنون».... هكذا قال له أحدهم يوما..‏‏
- «نعم نحن المجانين لكننا أصحاب كرامة.. و مازال لدينا بقية من سقف أحن من سقف الأمم المتحدة».‏‏
وصل الى الزقاق المؤدي الى بيته فافترّ وجهه عن ابتسامة خفيفة حين رأى عريشة مخمسة الأوراق تسقف الحارة وتناجي أرض الشارع الضيق بنور الشمس يتناوب مع ظل لطيف.. غريب سرها مخمسة النجوم الخضراء هذه !.. ما تزال تعرش على زواريب الحارة، لم تفقد نجومها الخضراء الجميلة رغم القذائف والصواريخ.. الاشجار لا تخاف، من يمتلك جذراً لا يموت.. كان أطفال الحارة يلعبون و يضجّون في ظلها، ضحكاتهم تعلو وتعلو، هناك حدث ما يدعوهم لكل هذا الحماس.‏‏
في احتشادهم هناك، لم يستطع أن يميز ما يحدث حتى صار أمام باب منزله فرأى ثلاثة منهم يقفون على أيديهم في مبارزة حماسية لمن يبقى منتصبا على يديه لفترة أطول.‏‏
خفق قلبه بسرعة واعتلت وجهه دهشة مفاجئة بينما اجتاحت جسده المتعب رعشة غريبة، عندما شاهد ابنه خليل ذا الاثني عشر ربيعا، يقف على يديه بجسارة بطل، وقد أمسك أحد الأولاد قدمه الوحيدة التي بقيت له بعد آخر قذيفة رميت على الحي.‏‏

***********************
***********************

جدتي حسـيبة

قصة قصيرة

كتبتها: ميسون عيسى




كانت تشعر أنها تملك كلّ غنى العالم، فعلى السفح الغربي لهضبة الجولان، يسكن بيتها ذو السقف الخشبي و الحجارة السوداء المائلة الى الزرقة ، و شبّاكها الذي يطلّ على امتداد الأفق من الجنوب اللبناني الى قرى الجليل الفلسطيني ..
إذا حزنت، مالت على كتف شبعا لتكفكف دمعها .. و إن فرحت، تفرح معها القرى المتناثرة على كتف الجليل .. يا لهذه المصافحة الجغرافية !... و يا لهذه الأكتاف !.. ذات الأرض .. ذات الرحم ..ذات الحكاية .. ذات الهم .. و ذات الحلم ...
فمن يشرب من جرار الفخار المصنوع في شبعا يضنيه البحث عن نفس طعم الماء الذي ينضح به جبل حرمون.. و من يستمع الى غناء الرعيان على تلال الجليل.. يجد من الحكمة ما يكفيه لملء جرار الروح لأجيال و أجيال ...
أمّا عجولها، و بقراتها المدللّات.. وردة و زهرة و غصن البان ، فلديهم مساحات على مد النظر من البراري العابقة بروائح الطيب......
و في حضن الكرم ، عندما يتساقط النور من بين العناقيد ، يستيقظ البيت ، على صوت السنونو تلعب وتثمل ، فتمضي نهارها في نظم القصائد حتى مغيب الشمس ...
كانت جميلة كشجرة سنديان تنتظر عودة عصفورها .. الذي قالت له مرّة بفطرتها الريفية ، ما يشبه قول الشاعر رسول حمزاتوف في مذكراته عن حياة المرء عندما يُكتب له أن يُولد شاعراً في الحقول: " الأغنية ضرورة للعصفور ، لكن مهمّة العصفور الأولى ، أن يبني عشّه ، و أن يجد رزقه ، و أن يغذّي صغاره " ، و لكنّ عصفورها الشاعر غادر البيت، ليفتش عن فرصة تحمله الى حياة أخرى ، أكثر دهشة و أكثر اتساعا من القرية الوادعة على سفح التلّ .
و على الرغم من محبّة الشجرة للعصفور فهي لا تلاحقه ، وإنما تنتظر أن تحمله جناحاه الى ظلّها ..
فدأبت كأغنية ريفية ، مع طلوع الفجر تنشغل بتفاصيل يومها الذي يبدأ بسقاية الحبق في باحة الدار، الى هموم الأرض و المواسم .
انه شهر الحصاد ، والسنابل تنوء بالذهب و الوقت لم يعد باكرا ، فقد بدأ أهالي القرية مهرجانهم السنوي منذ أيام ..
في قطعة قماش بيضاء ، وضعت رغيف خبز أسمر ، مع عنقود من العنب الأحمر ، بينما كانت يُمنى ابنة العم تنتظر عند مفرق البيت ، مستعجلة كعادتها ، لا تحب أن يسبقها شعاع الشمس إلى الحقل.
- نادت: يا حسيبة .. " ماعاد بكيّر "...
نظرت إلى الطفل النائم في الفراش .. أغلقت الباب الخشبي بهدوء ...
- أنا قادمة .....
لفّت منديلها الأبيض على رأسها ثم خطفت الزوادة بسرعة و بعزم حملت المنجل الموضوع بعناية الى جانب الباب .. و انطلقت بخطواتها الرشيقة تسابق الدرب الترابي المعشوشب نحو المفرق ...
و لم تنس أن تحضر معها تحيتها الصباحية المميزة ... غصن الحبق ..
تنشقت رائحته بعمق و بمرح طفولي رمت به الى يُمنى ..
تلقّفته الصبية بسرعة ..
-" آآه يا حبق ...شو بتعرف أسرار.. لو تخبّرني ..شو همس لك الحسون...بصحن الدار .."
ضحكتا ... و اسرعتا ..باتجاه المنحدر ..
في هذه اللحظة انفجر في السماء صوت مدوٍ ...أوقعهما أرضاً..
- التفتت يمنى .. هل أنت بخير ؟؟؟
- نعم ...
ثم صرخت بلهفة : الصبيّ ... هبّت واقفة .. وركضت باتجاه البيت ..

بحركة خاطفة انتزعت الطفل النائم من دفء الفراش و ضمّته بقوة ..ثم جالت لثوان معدودة في انحاء الغرفة .. حيث كانت بعض الصور بالابيض و الاسود ، معلقة على جدار الغرفة الى جانب المصحف الكريم الموضوع بعناية في غلاف قماشي أبيض نظيف و مطرز بنقوش زرقاء دقيقة .. عادت ببصرها الى الفراش و بيدين مرتجفتين لفّت الصغير بغطائه و خرجت ..
كانت يمنى ماتزال عند المفرق تحمل الزوادة وتحمل الدهشة في نظراتها التائهة ....عندما دوى انفجار قريب و شعرت بسخونة في قدمها لم يكن هناك وقت لتعرف ماذا حصل في غمرة هذا الرعد المفاجيء .. غطّت المكان سحابة من الغبار الممزوج بالنار و السواد ، ثم لفّ المكان ضباب كثيف حاجباً الرؤية ، عندها سمعت سعال يمنى التي تسبقها بخطوات و رأت شبحها في الضباب ، فحثت الخطا مسرعةً نحوها.. بينما كان الدم يسيل من قدمها ..شدّت طفلها بقوة الى صدرها .. وتحسسته لتتأكد أنه يتنفس و بلمح البصر مرّ من أمام عينيها شريط ، كالحلم ..استعادت فيه ذلك المساء عندما شارفت الشمس على المغيب..وكانت العجول ماتزال خارج الحظيرة .. بينما يجثو الديب منتظراً خلف التل ، لعله يحظى بوجبة شهية من اللحم ..و كلّما اقتربت الشمس من مخبئها بين التلال اقترب من العجول ..حتّى ظنّ أنها في قبضته فظهرت تلك الهيفاء الرشيقة... بفطرة الراعي علمت أنه هناك ..لوحت بقضيب الرمان ..فخاف الديب و اطلق ساقيه للريح .. استمرت في مطاردته بجسارةٍ ، و بصوتٍ عالٍ قذفته الى البعيد ..فطار مسرعاً يجر أذيال الهزيمة... وبعد أن وصل الى تلّ بعيد توقف برهةً ... ونظر اليها ، ثم تابع سيره ممنياً نفسه بفرصةٍ أخرى ، في غفلة من الزمان ...
هذا المخلوق القميء المدجج بأسلحته والقادم من خلف البحار .. ابتلع قرى الجليل و ابتلع معه صباحات الكروم ... و ها هو الآن..يزمجر و يعربد.. يمنّي نفسه بوجبة أخرى من لحمنا ..ماذا لو يخرج من مخبئه ، ماذا لو ينزل الى الأرض...؟؟؟
كان تحليق الطيران الجنوني لا يترك مجالا للمزيد من التفكير ..الكل يركض بالأولاد و النساء و الشيوخ الى مكان يأمنون فيه هذا الشر المنفلت من الطائرات.. لا يريد ان يترك حجرا على حجر .. يريد ان يغير حقيقة الكون بالقوة .. وبدت البيوت ذات الخدود الحجرية كحمامات استتفرد بها الصياد ..كلّما استُشهد بيت ..طالعته العيون الغاضبة ..من بعيد. .." يا أولاد الـ........." ..
سنعود....

صحيفة الثورة ٢٠١٦